المقدمة: مثّلت فترة العشرينات من القرن العشرين (XX) مرحلة هامّة في تاريخ تونس المعاصر حيث تميّزت بميلاد أوّل حزب سياسي منظّم هو الحزب الحرّ الدّستوري التّونسي، ونشأة أوّل حركة نقابيّة تونسيّة مستقلّة هي جامعة عموم العملة التّونسيّة، كرافدين أساسيين من روافد الحركة الوطنيّة التّونسيّة. فما هي ظروف نشأتهما ؟ وإلى أيّ مدى عبّرت برامجهما عن مشاغل التّونسيين ومطالبهم ؟ وإلى أي مدى مكّنت الطّرق النّضاليّة المعتمدة من تحقيق هذه المطالب ؟
1) الظّروف المساعدة على تطوّر العمل الوطني في عشرينات القرن XX
أ- الظّروف الدّاخليّة: تردّي الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة بتونس
اثر الحرب الكبرى، استأنفت فرنسا استعمار الأراضي الزّراعيّة العائدة إلى العروش (القبائل) والأوقاف (الأحباس) فتمكّنت من ضمّ 554.000 هك إلى معمّريها (سنة 1921). وأثقلت كاهل الفلاّحين بالضّرائب، فتضرّر الأهالي خاصّة وأنّ البلاد مرّت بسنوات عِجَافٍ تدنّت فيها المحاصيل الزّراعيّة. كما روّجت فرنسا بالبلاد بضائعها المصنوعة المورّدة ولم تعمل على تطوير الصّناعة المحليّة، فتضرّر الحرفيون والتّجّار. فقد تضاعف حجم الواردات التونسية من فرنسا أكثر من 3 مرّات بين 1918 و1921 ليصل إلى 590.000 طن.
وكبّل نظام الحماية الفرنسية البلاد التونسية بالقروض. ولتسديد هذه الدّيون لجأ إلى التّرفيع في الضّرائب القديمة (مثل الاستيطان والقانون والعشر) واستحداث ضرائب جديدة على الماشية وعلى الأرباح وتراوحت بين 50 و 80 % من قيمة الأرباح.
الفرنك الفرنسي العملة المتداولة في تونس سنة 1920
وتبعا لذلك ارتفعت الأسعار، حيث تضاعف سعر الخبز بين 1918 و 1920 وتدهورت القدرة الشرائية للسكّان فانتشر البؤس وتزايد غضب الأهالي على الاستعمار الذّي عمّق التّناقضات بين الفرنسيين والتّونسيين فتعدّدت الاحتجاجات ومظاهرات التنديد بغلاء المعيشة وتحوّلت مظاهرة 5 أوت 1920 بمدينة تونس إلى نهب للمخازن التجارية وعرفت سوسة والمهدية تحرّكات مماثلة.
وتمثّل هذه التحركات تعبيرا عن تنامي الوعي الوطني بسبب تدهور الأوضاع الدّاخليّة ولكن أيضا بتأثير الظّروف العالميّة الجديدة.
ب- الظّروف الخارجيّة ومن أهمّها:
- "مبادئ ولسن" التّي عرضها الرئيس الأمريكي أثناء انعقاد مؤتمر السّلم بباريس في 1919 والمتعلّقة بحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها، حيث أثارت آمال المثقّفين التونسيين في التحرّر والانعتاق. فقد وجّهت "اللّجنة الجزائرية التونسية" (بزعامة محمّد باش حامبة المنفي بسويسرا) نداءا إلى الرئيس ولسن في 2 جانفي 1919 تطلب فيه تمكين الوطنيين من حضور أشغال مؤتمر السلم للدفاع عن قضيتهم ضدّ الاستعمار الفرنسي.
- تأثّر الوطنيين التونسيين بحركات التحرّر بالمشرق العربي مثل الثورة المصرية التّي قادها سعد زغلول سنة 1919 ضدّ الاستعمار الانجليزي وتُوّجت بالغاء الحماية سنة 1922 وكذلك الثّورة البلشفية في روسيا التّي أعلنت موقفا مناهضا للاستعمار أكّدته الأممية الشيوعية الثالثة عند تأسيسها بموسكو في مارس 1924. كما كان الحركة الوطنية التركية صدى عند الوطنيين التونسيين خاصّة بعد تمكّن زعيم الحركة مصطفى كمال من هزم اليونايين وطرد الحلفاء سنة 1921.
2) مظاهر تطوّر الحركة الوطنيّة التونسية على المستويين السياسي والاجتماعي
وفّرت حركة الشّباب التّونسي التّي تأسّست في 1907 أرضيّة سانحة لتطوّر الحركة الوطنيّة التّونسية. فقد استغلّت ظروف ما بعد الحرب الكبرى لتشهد نقلة نوعيّة من حيث التّنظيم والمطالب والنّشاط.
أ- نشأة الحزب الحرّ الدّستوري التونسي
تخلّى السباب التونسي عن سياسة الانتظار التّي ميزّت نشاطهم طيلة فترة الحرب. وأعادوا صياغة مطالبهم وفق الظرفية الجديدة المنبثقة عن الحرب.
الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1874-1944)
- تأسيس الحزب وبرنامجه: أسّس عبد العزيز الثعالبي مع ثلّة من الوطنيين مثل أحمد الصّافي وحسن الـﭭـلاّتي الحزب الحرّ الدّستوري التونسي في مارس 1920. واستمدّ الحزب برنامجه من كتاب تونس الشّهيدة الذّي أصدره الثعالبي بمعيّة رجل القانون ومترجمه أحمد السقّا باللّغة الفرنسية في نسخته الأصليّة سنة 1920 بباريس. وشمل البرنامج مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية من 9 نقاط وهي:
· مجلس تفاوضي مشترك
· حكومة مسؤولة أمامه
· الفصل بين السلط
· قبول التونسيين في جميع الوظائف العامة إذا استوت الكفاءات
· التساوي المطلق في المرتّبات
· انتخاب حرّ للمجالس البلديّة
· حريّة الصّحافة والاجتماع
· التعليم الإجباري العام
· مشاركة التونسيين في ابتياع الأراضي المخصّصة للمعمّرين
وهي مطالب إصلاحيّة هدفها اقامة نظام دستوري يقوم على الفصل بين السلطات واحترام الحريات وتحقيق المساواة بين التونسيين والفرنسيين في إطار نظام الحماية.
- نشاط الحزب: تعدّدت أنشطة الحزب داخل البلاد وخارجها، وكانت تهدف إلى:
· نشر الوعي الوطني عن طريق نشر الصّحف التي بلغ عدد الناطق منها بالعربية 30 صحيفة سنة 1921 (مثل الصواب والحقيقة والوزير) وعقد الاجتماعات وإنشاء الشّعب داخل البلاد
· التّعريف بالمطالب الوطنيّة لدى السلطات الفرنسية عن طريق الوفود (جوان 1920 و جانفي 1921 وديسمبر 1924)
صورة وفد الحزب إلى الباي محمد الناصر في جوان 1920
· كسب مساندة الباي محمّد النّاصر لمطالب الوطنيين لإضفاء الصبغة الشرعية عليها
ب- تأسيس جامعة عموم العملة التونسية
تعتبر الحركة النقابية التونسية المستقلة رافدا من أهمّ روافد الحركة الوطنيّة.
- ظروف النشأة: انخرط العمّال التونسيون في النقابات الفرنسية ممّا أكسب بعضهم خبرة نقابية. غير أنّ اتّحاد النقابات الفرنسية سخّر كل ّطاقاته للدّفاع عن مصالح العمّال الأوروبيين متجاهلا مشاغل العمّال التونسيين. فقد كان يرفض مبدأ المساواة في الأجور بدعوى انعدام الكفاءة. لذلك شرع العمّال الأهالي في الانسلاخ عن النقابات الفرنسية ممّا أفرز حاجّة أكيدة لبعث نقابة وطنية مستقلّة. فاستغلّ الوطنيون بقيادة محمّد علي الحامّي إضرابات عمّال الرّصيف بتونس وبنزرت في صائفة 1924 لبعث العديد من النقابات في العاصمة مثل نقابة عمّال الرصيف والسكك الحديدية وسوق الحبوب والنسيج والشاشية ثمّ تأسيس جامعة نقابية في 1 نوفمبر 1924 هي جامعة عموم العملة التونسية. وأسندت كتابتها العامّة إلى محمّد علي الحامّي. وبلغ عدد المنخرطين فيها حوالي 6000 عامل معظمهم من قطاع النقل.
محمّد علي الحامّي (1890-1928)
- أهداف الجامعة ونشاطها: يهدف تأسيس الجامعة إلى الدّفاع عن مصالح العمّال الماديّة والمعنويّة بصرف النّظر عن جنسياتهم وأديانهم. وكان قادتها محمّد علي الحامي ومختار العياري وأحمد بن ميلاد يعقدون الاجتماعات العمالية ويؤسسون النقابات في عدّة مدن منها بنزرت وماطر وصفاقس وزغوان ويؤطّرون الاضرابات للمطالبة بتحسين ظروف العمال. وقد أظهر نشاطهم قدرات تعبوية كبيرة أثارت مخاوف العديد من الأطراف: اتّحاد النقابات الفرنسية بتونس، المعمّرون وسلطات الحماية الفرنسية التّي أقدمت في جانفي 1925 على ايقاف أبرز قادة الجامعة والقضاء عليها عبر نفيهم في نوفمبر 1925.
الخاتمة: لئن تعدّدت الأشكال النّضالية للوطنيين التونسيين خلال عشرينات القرن العشرين؛ فهي لم تفلح في تحقيق طموحات التونسيين. إلاّ أنّ هذه الفترة مثّلت مرحلة هامّة من مراحل النّضال الوطني، أسّست لقواعد الحركة الوطنية التونسية ومهّدت لمزيد تجذّر العمل الوطني في الثلاثينات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق