المقدّمة: يعيش 6,705 مليار نسمة (2008)[1] موزّعين بصفة متفاوتة على جزء بسيط من سطح اليابسة تحت تأثير عدّة عوامل أدّت إلى حالات من الاكتظاظ السكّاني وأخرى من النّقص في التّعمير . وتجسّد البرازيل هذا التّباين الشّديد في التوزيع المجالي للسكّان.
1) دراسة حالة معبّرة : البرازيل
أ - إطار جغرافي ملائم للإستيطان
يعدّ البرازيل بمثابة البلد القارّة حيث يمتدّ على مساحة 8,511 مليون كلم2 وهو بذلك أكبر بلدان أمريكا اللاّتينيّة (حيث يمثّل ½ مساحتها) وخامس إقليم في العالم من حيث المساحة[2]. ويغلب الانبساط على التّضاريس إذ تغطّي السّهول والأحواض الدّاخليّة 41 % من مساحة البلاد. ويقع 90% من المجال البرازيلي بين خطّ الاستواء ومدار الجدي لذلك يسود المناخ الاستوائي الأجزاء الشّمالية من البلاد ولا سيما الحوض الأمازوني بينما يغلب المناخ المداري على الأجزاء الوسطى فيما يميّز أقصى الجنوب الشّرقي مناخ شبه مداري.
وتوحي شساعة المجال البرازيلي بأهميّة الموارد وتتيح للسكّان أفاقا عريضة للاستغلال، ويعتبر المناخ الحار والرّطب ملائما عموما للنّشاط الفلاحي في الجزء الأكبر من المجال البرازيلي حيث تمتدّ الأراضي الصّالحة للزّراعة على نحو 320 مليون هكتار؛ على أنّ مزايا الإطار الطّبيعي وغياب ضغوط طبيعية معرقلة حدّدت إلى درجة كبيرة نمط تعامل السكّان مع المجال، إذ غلب نمط البحث عن الموارد والأراضي الجديدة على الاستيطان الدّائم والتّكثيف، وساد الاستغلال المنجمي للأرض، وتجسّم أمازونيا أبلغ مثال للتأثيرات السّلبيّة لهذا السّلوك الذّي بدّد ما لا يقلّ عن 300 ألف كم2 من الغابة الاستوائية دون أن يركّز أنشطة ذات إنتاجيّة عالية.
ب- دور متميّز للهجرات الوافدة
استفاد البرازيل خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر من جلب العبيد من إفريقيا كما توافدت عليه أدفاق كبيرة من المهاجرين من أوروبا الغربيّة (البرتغال وإسبانيا وإيطاليا أساسا) قدّر عددهم بحوالي 4,8 مليون بين 1819 و1939. ورغم اعتماده سياسة تحديد الهجرة بداية من 1934، فإنّ البرازيل إستقبل نحو 600 ألف مهاجر خلال الخمسينات . وضمنت هجرة العبيد تلبية حاجات غراسات القصب السّكري والبنّ (غرب منطقة ساو باولو) من اليد العاملة فيما أسهم المهاجرون الأوروبيون من خلال خبرتهم وتقاليدهم الزراعية والصناعية في تطوير أنشطة فلاحية جديدة (مثل استغلال أشجار المطاط الطبيعي بأمازونيا) ودفع حدود المجال المعمور نحو الغرب.
ج - التّوزع المجالي للسكان في البرازيل
يبلغ تعداد سكّان البرازيل 191,908 مليون نسمة (2008)[3] وهي بذلك خامس أكبر أقطار العالم (بعد الصين والهند والولايات المتحدة وأندونيسيا) لكنه لا يحتل سوى المرتبة 150 بالنّسبة لترتيب الكثافة السكانية التّي لا تزيد على 22,7 س/كم2 (2008). لكنّ توزّع السكّان يبرز تفاوتا مجاليا كبيرا
خارطة الكثافات السكانية في البرازيل
يتركّز 80 % من سكّان البرازيل في السّهول الساحلية الضيّقة من فرتاليزا شمالا إلى بورتو ألغري جنوبا مرورا بالتجمعات الحضرية الكبرى لريو دي جانيرو(11,469 مليون نسمة) وساوباولو (140 س/كم2)[4] التّي تعدّ 18,333 مليون نسمة (2005)[5] أي حوالي 10 % من مجموع سكّان البرازيل (9,55%) ورابع أكبر تجمّع حضري في العالم (بعد طوكيو والمكسيك ونيويورك).
وفي هضبة البرازيل (في الوسط الغربي) فالكثافات السكانية تتراوح بين 10 و 25 س/كم2.
أمّا في حوض الأمازون (الشمال) فلا تزيد الكثافة على 10س/كم2 بل ولا تتعدّى أحيانا 1س/كم2
2) التّوزّع الجغرافي للسكان في العالم:
خريطة التوزيع الجغرافي للسكان في العالم (كلّ نقطة تمثّل 100 ألف ساكن)
أ – تفاوت بين نصفي الكرة الأرضية
يعيش قرابة 91 % من سكّان العالم في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، بين خطّي العرض 20 د و 60 د. ويتركّز نصفهم بين خطّي العرض 20 د و 40 د أمّا النصف الجنوبي للأرض فلا يضمّ سوى 9 % من مجموع السكّان بسبب قلّة إمتداد اليابسة فيه. وبالتّالي يتركّز أغلب سكّان المعمورة في النّطاقين المعتدل والمداري.
ويبرز التّفاوت كذلك على نفس خطوط العرض: ففي العروض الوسطى مثلا، يتّضح التّباين بين السّواحل الغربيّة للقارات الآهلة بالسكان والسواحل الشرقية التّي تكاد تكون خاليّة ، وذلك لعدم تماثلها المناخي خاصّة بسبب إختلاف معدّلات التّساقط والحرارة.
ب- تفاوت بين العالمين النامي والمتقدّم
يعيش 81,71 % من سكان المعمورة في العالم النامي مقابل 18,2 %فقط في العالم المتقدّم (2008). واعتبارا لسرعة النمو الطبيعي للسكان في العالم النامي على خلاف الفتور الديمغرافي في العالم المتقدم، سيتعاظم هذا التفاوت بإطّراد.
ج- تفاوت بين القارات
القارة | % من مجموع سكّان العالم (2008) |
آسيا | 60,43 |
إفريقيا | 14,42 |
أمريكا | 13,64 |
أوروبا | 10,97 |
أقيانوسيا | 0,52 |
د – تفاوت بين الأقطار
حيث تبرز دول عملاقـة فـاق عدد سكانها المليار نسمة كالصين الشعبية (1,324 مليار) والهـنـد (1,149 مليار) وأخرى لا يتجاوز تعداد سكانها بضعة آلاف (مثل إمارة موناكو : 32,796 ألف نسمة خارج موسم الاصطياف).
ويخفي هذا التوزّع العام للسكان تباينات عميقة بين مراكز إعمار شديدة التّركّز السكّاني وأخرى متوسّطة التّعمير ومجالات خاليّة تماما من السكّان
3) مراكز الإعمار
خريطة مراكز الإعمار الكبرى في العالم
أ - مراكز الإعمار الكبرى
· دلتاءات آسيا الموسميّة والسّهول النّهريّة الدّاخليّة وتمثّل أضخم التجمّعات السكانية على سطح المعمورة وأشدها تركّزا حيث يصل معدّل الكثافة بها إلى 2500 س/كم2 وهو ما عرف بمجال "حضارة الأرزّ"، حيث ظهرت هناك زراعة جاهدة مشغّلة، إستغلّت وفرة الماء والحرارة وامتداد السهول الفيضيّة وعراقة المهارات والتقاليد الزراعية ونجاعة التنظيم الاجتماعي.
· أوروبا الغربية وهي ثاني أكبر تجمّع سكّاني في العالم، حيث تفوق كثافته 100 س/كم2. ويعود هذا التركّز إلى قدم الاستيطان البشري في السهول الممتدة والخصبة والتي عرفت بـ"حضارة القمح". وقد تكثّف هذا التعمير مع الثورة الصناعية وتدعّم إشعاع المدن.
ب- مراكز الإعمار المتوسّطة ومنها :
· الشمال الشرقي لأمريكا الشمالية: الذّي استقبل موجات الهجرة المتعاقبة نحو العالم الجديد خلال القرن السادس عشر والتاسع عشر بالخصوص.
· السواحل الشرقية البرازيلية: حول الموانئ والمناجم التّي اتخذها المستعمر البرتغالي مستوطنات أولى له.
· المرتفعات المداريّة: وهي التي تسجل كثافات عالية مقارنة بالمنخفضات المجاورة لها حيث ترتفع الحرارة وتكثر المستنقعات الحاملة للجراثيم، بينما تجذب المرتفعات المدارية (مثل جبال خمير في تونس) السكان لسهولة صرف المياه والانخفاض النسبي للحرارة فضلا عن الدّوافع الأمنيّة والجبائيّة حيث تحوّلت إلى ملاجئ آمنة.
ج – المناطق الخالية من السكّان
- المناطق القطبية والقاحلة حيث تعتبر شدّة البرودة أو الجفاف من العوامل التي تحدّ من التعمير إذ تنزل الكثافة السكانية إلى ما دون 1 س/كم2 مثل الألسكا(0,4 س/ كم2) أو صحراء ناميبيا (0,2 س/ كم2). مجالات الغابة الكثيفة بإعتبارها وسطا مُنفّرا للسكان كثير الحرارة والرطوبة والحشرات وهي لا تتحمّل إلاّ كثافات ضعيفة مثل غابة الأمازون [ أمازونيا ] (0,6 س/ كم2).
- السلاسل الجبلية العالية التي تتميز بخلائها البشري باعتبارها مناطق قاسية ومنفّرة بإثلاجها الدائم وشدة انحدارها.
لكن لا يعدو معدّل الكثافة العامة للسكان أن يكون مجرّد معدّل حسابي غير دقيق بين المساحة وعدد السكان، لا يعكس حقيقة التوزّع الجغرافي للسكان ولا يعبّر بدقّة عن نوعية المجال الذّي تركّز به السكان. لذا ينبغي طرح العلاقة من منظور نوعي لا كمّي. فالتّباين في الكثافات لا يعني بالضّرورة تباينا في قدرة الحمل الديمغرافي لأنّ كيفيّة توزّع السكّان تعبّر في الحقيقة عن علاقة ديناميكيّة بين عدد السكّان والموارد المتاحة والمستوى التقني المعتمد لاستغلال تلك الموارد.
الخاتمة: لئن حافظت خريطة التوزّع الجغرافي للسكّان في معظمها على نفس التّناقضات والتّباينات للكثافات السكّانيّة ؛ فإنّ توزّع السكّان حسب الموارد يعبّر، بالعكس، عن حالة متغيّرة ونسبيّة من التّعمير.
[1] Population Reference Bureau ; 2008 World Population Data Sheet (Washington DC,2008) pp 7-10.
[2] CIA ; The World Factbook 2008, Rank Order Area.
[3] US Census Bureau, in CIA ; The World Factbook 2008, Brazil and in Microsoft Encarta Premium 2009 (DVD)
[4] Le Brésil : une population originale (fiche) Collection Microsoft® Encarta® 2006. (CD) .
[5] United Nations. World urbanization prospects: the 2007 revision p169
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق