توطئة: تمكّن دراسة الحضارات القديمة من الوقوف على إسهاماتها الجليلة في حضارتنا المعاصرة، وتعكس التّواصل والتّفاعل بين الحضارات، وبغير ذلك لا يمكن فهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا.
والحقيقة أنّنا مدينون للحضارات القديمة بما نحن عليه من تقدّم في شتّى المجالات الفكريّة والعلميّة والإقتصاديّة والسّياسيّة... فمنها أخذنا الزّراعة والكتابة والعمارة والدّيانة والحكمة والطبّ والقانون والفلك والحساب...
فقيم الحريّة والعدالة والتّسامح والدّيمقراطيّة التّي تقوم عليها حضارتنا المعاصرة، تستمدّ مرجعيتها من الرّصيد الإنساني الحافل للعصر الأنوار والنّهضة الأوروبيّة الحديثة... هذه النّهضة التّي عادت بدورها لتستلهم من الحضارات القديمة معاني الإنسانيّة وسيادة العقل والحكمة والقانون.
المقدّمة: يمثّل الشّرق القديم والحوض المتوسّطي مهد الحضارات الأولى بفضل ما توفّر لهذه المنطقة من ظروف ملائمة. فما هي الخصوصيات المجالية لهذه الحضارات وما هي أهمّ أطوارها التّاريخية وأبرز مميّزاتها الحضاريّة؟
1) المجال الجغرافي والإطار التّاريخي لحضارات الشّرق القديم:
ظهرت الحضارات الأولى قرب ضفاف الأنهار في مناطق تميّزت بظروف طبيعيّة ملائمة لتكوين مجتمعات مستقرّة ومنظّمة. فنعتت بالحضارات المائية.
وقد توفّرت هذه الظّروف في منطقة الهلال الخصيب (من بلاد الرافدين: دجلة والفرات إلى وادي النّيل) حيث نشأت الحواضر (المدن) واكتشفت الزّراعة والكتابة وصناعة المعادن.
وبلاد الرّافدين أو بلاد ما بين النّهرين Mésopotamos كما سمّاها الإغريق القدامى هي الرّواق الخصب الذّي يمتدّ بين جبال الزّاغروس شرقا وبادية الشّام غربا والذّي يعبره نهرا دجلة (ادقلات) Tigré والفرات (بوراطو) Euphrates. وبحكم موقعها كانت مسرحا لزحف شعوب هندية-أووربية وساميّة تلاقحت ثقافاتها فأفرزت حضارة لامعة من ثلاثة عهود كبرى: السومري، البابلي القديم والآشوري. وفيها ظهرت الكتابة المسمارية وأولى التشاريع (قانون حمورابي) فشكّلت بذلك أولى محاولات تنظيم المجتمعات البشرية.
أمّا مصر فهي بلاد قاحلة لكنّ مرور نهر النّيل وفيضانه سمحا بظهور الحضارة فيها باكرا. وعلى خلاف بلاد الرافدين، كانت مصر منغلقة على نفسها تعزلها الصحاري والجبال من كلّ الجهات، فكان تاريخها أكثر استقرارا رغم تعاقب ثلاثة أطوار من العهود الإمبراطورية (القديمة والوسطى والحديثة). وتميّزت هذه الحضارة باعتقاد المصريين القدامى بالبعث والحساب والخلود بعد الموت وتجسّم ذلك من خلال تحنيط الموتى (المومياء) وبناء المعالم الجنائزية الضخة (الأهرام).
وساعدت الظروف الجغرافية (الموقع الساحلي، ضيق الأراضي الزراعية ...) فينيقيا على التوجه نحو البحر فتكونت حضارة ملاحية بامتياز من ثلاثة مراحل كبرى : مرحلة بناء المصارف، مرحلة تأسيس المستوطنات التي غطت الجزء الأكبر من المتوسط ومرحلة الخضوع للهيمنة الأجنبية. وقد تمّ اختراع الأبجدية في جبيل أواخر الألف الثانية قبل الميلاد
وتميّزت فلسطين بموقعها الهام لذلك كانت ممرّا للشّعوب وهدفا للغزاة.
2) المجال الجغرافي والإطار الزّمني لحضارات العالم المتوسّطي:
تتشكّل حضارات العالم المتوسّطي من بلاد الإغريق وقرطاج وروما.
تقع بلاد اليونان شمال شرقي المتوسّط، وهي بلد جبلي دفع بسكّانه إلى البحر. فعلى غرار الفينيقيين أسّس الإغريق المستوطنات وساهموا في نشر الحضارة الشرقية على ضفاف المتوسط. ومرّت اليونان القديمة بأربعة أطوار كبرى: الحضارات الإيجيّة الأولى ثمّ الفترة الهوميرية (القرون المظلمة) التّي مهّدت للعصر الإغريقي الكلاسيكي حيث بلغت الحضارة اليونانية أوج إزدهارها.
أمّا قرطاج فهي وريثة فينيقيا. وقد شمل مجال نفوذها السياسي الجزء الأكبر من غرب المتوسّط بينما إمتدّت علاقاتها التّجارية إلى كامل حوضي البحر الأبيض المتوسط. وقد مرّ تاريخها بثلاثة أطوار كبرى: في الفترة العتيقة ظلّت قرطاج منذ تأسيسها حوالي سنة 814 ق.م مستوطنة فينيقيّة تابعة لصور(Tyr) أمّا في الفترة الكلاسيكية فقد عرفت قرطاج أوج قوّتها، بينما تميّزت المرحلة الأخيرة بحروبها مع روما وملاحم حنّبعل العسكريّة التّي انتهت بسقوطها سنة 146 ق.م
وحملت الإمبراطوريّة الرّومانية بدورها الإرث الإغريقي والشّرقي إلى كامل ضفاف المتوسّط الذّي تحوّل إلى بحيرة رومانية. ومرّت الحضارة الرومانية بثلاثة أطوار أساسية: العهد الملكي الذّي انطلق بتأسيس روما سنة 753 ق.م، العهد الجمهوري الذّي امتدّ من 475 ق.م إلى 27 ق.م والعهد الإمبراطوري الذّي استغرق حوالي خمسة قرون (27 ق.م - 476 م) امتدّ خلالها تأثير الحضارة الرومانية إلى كامل حوض المتوسّط. ومن أهمّ مميّزاتها الحضاريّة الإزدهار العمراني والمعماري وتطوير التشريع والقانون.
لتحميل الدّرس في صيغة بي دي أف يُرجى الضّغط هنا
هناك تعليق واحد:
أدعوكم إلى قراءة حوار مع جورج صليبة حول كتابه « العلم الإسلامي وصنع النهضة الأوروبيا »، الذي يتناول فيه أسباب تطور العلم في الحضارة الإسلامية من وجهة نظر اجتماعية.
إرسال تعليق